كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من واق}.. فالذي جاءك هو العلم اليقين، وما يقوله الأحزاب أهواء لا تستند إلى علم أو يقين. وهذا التهديد الموجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أبلغ في تقرير هذه الحقيقة، التي لا تسامح في الانحراف عنها، حتى ولو كان من الرسول، وحاشاه عليه الصلاة والسلام.
وإذا كان هناك اعتراض على بشرية الرسول فقد كان الرسل كلهم بشرًا: {ولقد أرسلنا رسلًا من قبلك وجعلنا لهم أزواجًا وذرية}. وإذا كان الاعتراض بأنه لم يأت بخارقة مادية، فذلك ليس من شأنه إنما هو شأن الله: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله}.. وفق ما تقتضيه حكمته وعندما يشاء.
وإذا كان هناك خلاف جزئي بين ما أنزل على الرسول وما عليه أهل الكتاب، فإن لكل فترة كتابًا، وهذا هو الكتاب الأخير: {لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}.. فما انقضت حكمته يمحوه، وما هو نافع يثبته. وعنده أصل الكتاب، المتضمن لكل ما يثبته وما يمحوه. فعنه صدر الكتاب كله، وهو المتصرف فيه، حسبما تقتضي حكمته، ولا راد لمشيئته ولا اعتراض.
وسواء أخذهم الله في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء مما أوعدهم، أو توفاه إليه قبل ذلك، فإن هذا لا يغير من الأمر شيئًا، ولا يبدل من طبيعة الرسالة وطبيعة الألوهية: {وإمّا نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}.. وفي هذا التوجيه الحاسم ما فيه من بيان طبيعة الدعوة وطبيعة الدعاة.. إن الدعاة إلى الله ليس عليهم إلا أن يؤدوا تكاليف الدعوة في كل مراحلها؛ وليس عليهم أن يبلغوا بها إلا ما يشاؤه الله. كما أنه ليس لهم أن يستعجلوا خطوات الحركة، ولا أن يشعروا بالفشل والخيبة، إذا رأوا قدر الله يبطئ بهم عن الغلب الظاهر والتمكين في الأرض، إنهم دعاة وليسوا إلا دعاة.
وإن يد الله القوية لبادية الآثار فيما حولهم، فهي تأتي الأمم القوية الغنية حين تبطر وتكفر وتفسد فتنقص من قوتها وتنقص من ثرائها وتنقص من قدرها؛ وتحصرها في رقعة من الأرض ضيقة بعد أن كانت ذات سلطان وذات امتداد، وإذا حكم الله عليها بالانحسار فلا معقب لحكمه، ولابد له من النفاذ: {أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب}.. وليسوا هم بأشد مكرًا ولا تدبيرًا ولا كيدًا ممن كان قبلهم. فأخذهم الله وهو أحكم تدبيرًا وأعظم كيدًا: {وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعًا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار}..
ويختم السورة بحكاية إنكار الكفار للرسالة. وقد بدأها بإثبات الرسالة.
فيلتقي البدء والختام. ويشهد الله مكتفيًا بشهادته. وهو الذي عنده العلم المطلق بهذا الكتاب وبكل كتاب: {ويقول الذين كفروا لست مرسلًا قل كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب}.
وتنتهي السورة وقد طوفت بالقلب البشري في أرجاء الكون، وأرجاء النفس، ووقعت عليه إيقاعات مطردة مؤثرة عميقة. وتركته بعد ذلك إلى شهادة الله التي جاء بها المطلع وجاء بها الختام، والتي يحسم بها كل جدل، وينتهي بعدها كل كلام..
وبعد.. ففي السورة معالم للعقيدة الإسلامية، وللمنهج القرآني في عرض هذه العقيدة.. وكان من حق هذه المعالم أن نقف عندها في مواضعها؛ لولا أننا آثرنا ألا نقطع تدفق السياق القرآني في هذه السورة بتلك الوقفات؛ وأن نبقيها إلى النهاية لنقف أمامها متمهلين!
وقد أشرنا في أثناء استعراض السورة في سياقها إلى تلك المعالم إشارات سريعة؛ فنرجو أن نقف عندها الأن وقفات أطول بقدر المستطاع... والله المستعان..
إن افتتاح السورة، وطبيعة الموضوعات التي تعالجها، وكثيرًا من التوجيهات فيها.. كل أولئك يدل دلالة واضحة على أن السورة مكية وليست مدنية كما جاء في بعض الروايات والمصاحف وأنها نزلت في فترة اشتد فيها الإعراض والتكذيب والتحدي من المشركين؛ كما كثر فيها طلب الخوارق من الرسول صلى الله عليه وسلم واستعجال العذاب الذي ينذرهم به؛ مما اقتضى حملة ضخمة تستهدف تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه على الحق الذي أنزل إليه من ربه، في وجه المعارضة والإعراض، والتكذيب والتحدي؛ والاستعلاء بهذا الحق، والإلتجاء إلى الله وحده؛ وإعلان وحدانيته إلهًا وربًا؛ والثبات على هذه الحقيقة؛ والاعتقاد بأنها هي وحدها الحق، مهما كذب بها المشركون. كما تستهدف مواجهة المشركين بدلائل هذا الحق في الكون كله، وفي أنفسهم، وفي التاريخ البشري وأحداثه كذلك؛ مع حشد جميع هذه المؤثرات ومخاطبة الكينونة البشرية بها خطابًا مؤثرًا موحيًا عميق الإيقاع قوي الدلالة.
وهذه نماذج من التوكيدات على أن هذا الكتاب هو وحده الحق؛ وأن الإعراض عنه، والتكذيب به، والتحدي، وبطء الاستجابة، ووعورة الطريق.. كلها لا تغير شيئًا من تلك الحقيقة الكبيرة:
*: {تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}..
*: {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد}.
*: {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}.
*: {كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال}..
*: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب}..
*: {ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}..
*: {كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب}..
*: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب وكذلك أنزلناه حكمًا عربيًا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق}..
*: {وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}..
*: {ويقول الذين كفروا لست مرسلًا قل كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب}..
وهكذا نلمس في هذه الطائفة من الآيات التي أوردناها طبيعة المواجهة التي كان المشركون يتحدون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتحدون بها هذا القرآن؛ ثم دلالة هذا التحدي ودلالة التوجيه الرباني إزاءه على طبيعة الفترة التي نزلت فيها السورة من العهد المكي.
ومن اللمحات البارزة في التوجيه الرباني لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجهر في مواجهة الإعراض والتكذيب والتحدي وبطء الاستجابة ووعورة الطريق بالحق الذي معه كاملًا؛ وهو أنه لا إله إلا الله، ولا رب إلا الله، ولا معبود إلا الله، وأن الله هو الواحد القهار، وأن الناس مردودون إليه فإما إلى جنة وإما إلى نار.. وهي مجموعة الحقائق التي كان ينكرها المشركون ويتحدونه فيها.. وألا يتبع أهواءهم فيصانعها ويترضاها بكتمان شيء من هذا الحق أو تأجيل إعلانه! مع تهديده بما ينتظره من الله لو اتبع أهواءهم في شيء من هذا من بعد ما جاءه من العلم!..
وهذه اللمحة البارزة تكشف لأصحاب الدعوة إلى الله عن طبيعة منهج هذه الدعوة التي لا يجوز لهم الاجتهاد فيها! وهي أن عليهم أن يجهروا بالحقائق الأساسية في هذا الدين، وألا يخفوا منها شيئًا، وألا يؤجلوا منها شيئًا.. وفي مقدمة هذه الحقائق: أنه لا ألوهية ولا ربوبية إلا لله. ومن ثم فلا دينونة ولا طاعة ولا خضوع ولا اتباع إلا لله.. فهذه الحقيقة الأساسية يجب أن تعلن أيًا كانت المعارضة والتحدي؛ وأيًا كان الإعراض من المكذبين والتولي؛ وأيًا كانت وعورة الطريق وأخطارها كذلك.. وليس من الحكمة والموعظة الحسنة إخفاء جانب من هذه الحقيقة أو تأجليه، لأن الطواغيت في الأرض يكرهونه أو يؤذون الذين يعلنونه! أو يعرضون بسببه عن هذا الدين، أو يكيدون له وللدعاة إليه! فهذا كله لا يجوز أن يجعل الدعاة إلى هذا الدين يكتمون شيئًا من حقائقه الأساسية أو يؤجلونه؛ ولا أن يبدأوا مثلًا من الشعائر والأخلاق والسلوك والتهذيب الروحي، متجنبين غضب طواغيت الأرض لو بدأوا من إعلان وحدانية الألوهية والربوبية، ومن ثم توحيد الدينونة والطاعة والخضوع والاتباع لله وحده!
إن هذا لهو منهج الحركة بهذه العقيدة كما أراده الله سبحانه؛ ومنهج الدعوة إلى الله كما سار بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بتوجيه من ربه.. فليس لداع إلى الله أن يتنكب هذا الطريق؛ وليس له أن ينهج غير ذلك المنهج.. والله بعد ذلك متكفل بدينه، وهو حسب الدعاة إلى هذا الدين وكافيهم شر الطواغيت!
والمنهج القرآني في الدعوة يجمع بين الحديث عن كتاب الله المتلوّ وهو هذا القرآن وبين كتاب الكون المفتوح؛ ويجعل الكون بجملته مصدر إيحاء للكينونة البشرية؛ بما فيه من دلائل شاهدة بسلطان الله وتقديره وتدبيره. كما يضم إلى هذين الكتابين سجل التاريخ البشري، وما يحفظه من دلائل ناطقة بالسلطان والتقدير والتدبير أيضًا. ويواجه الكينونة البشرية بهذا كله ويأخذ عليها أقطارها جميعًا؛ وهو يخاطب حسها وقلبها وعقلها جميعًا!
وهذه السورة تحوي من النماذج الباهرة في عرض صفحات الكتاب الكوني عقب الكتاب القرآني في مواجهة الكينونة البشرية بجملتها.. وهذه بعض هذه النماذج: {المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}.
{الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها؛ ثم استوى على العرش؛ وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارًا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} يحشد السياق هذه المشاهد الكونية، ليحيل الكون كله شاهدًا ناطقًا بسلطان الله سبحانه في الخلق والإنشاء، والتدبير. ثم يعجّب من أمر قوم يرون هذه الشواهد كلها، ثم يستكثرون قضية البعث والنشأة الأخرى، ويكذبون بالوحي من أجل أنه يقرر هذه الحقيقة القريبة.. القريبة في ظل تلك المشاهد العجيبة..
{وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابًا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}
يعرض هذه الصفحة من الوجود الكوني ليعجّب من أمر قوم يجادلون في الله ويشركون به، وهم يشاهدون آثار ربوبيته وقدرته وسلطانه، ودينونة الكون له، وتصريفه وتدبيره لأمر العباد فيه؛ وعجز كل من عداه سبحانه عن الخلق والتدبير والتقدير: {وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا وظلالهم بالغدو والآصال قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار} وهكذا يستحيل الكون معرضًا باهرًا لدلائل القدرة وموحيات الإيمان، يخاطب الفطرة بالمنطق الشامل العميق؛ ويخاطب الكينونة البشرية جملة، بكل ما فيها من قوى الإدراك الباطنة والظاهرة، في تناسق عجيب.
ثم يضيف إلى صفحات الكتاب الكوني، صفحات التاريخ الإنساني؛ ويعرض آثار القدرة والسلطان والهيمنة والقهر والتدبير في حياة الإنسان: {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات}. {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال}.
*: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع}..
{ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب}..
*: {أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب}.
*: {وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعًا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار}.
وهكذا يحشد المنهج القرآني هذه الشواهد والدلائل في التاريخ البشري؛ ويحيلها إلى مؤثرات وموحيات، تخاطب الكينونة البشرية بجملتها في تناسق واتساق.